
نازحون (١)
ودعت بيتي الوداع الاخير ، وصوت المدافع لا يفارق طبلة اذني ، لا يخيفني دوي الرصاص ولاصوت المدافع ، بقدر ما اخافتني الوحده والعزله التي اعيشها ، حملت حقيبتي تلك الصغيره على كتفي ، وودعت بيتي الوداع الاخير ، طوت بنا الحافله المسافات الطوال ، ولم اسال الى اين السفر ، الحافله مليئة بالركاب ، وفي كل مقعد راكبين ، اتكات بمرفقها طفلة صغير على فخذي وقد تناثرت قطع صغيره من البسكوبت على بنطالي الاسود، الكل يفر بجلده من سقوط الدانات عليه ، مدينة مدني اقرب المدن وهي ٱمنة تماما من سطوة المرتزقه وتسلط الجنجويد ، فتاة تكاد تبلغ الاربعين من عمرها جميلة المحيا ، كانت تجلس بالقرب من مقعدي ، لم انتبه لجمالها ولا لعينيها المذعورتين ، ولا لوشاحها الذي تدلى في اهمال مظهرا شعرا اسودا فاحما تتخلله شيبات بدت كانها تخطط لمستقبل قاتم مجهول ، تناولت الفتاة تلك الطفلة المتكئة على فخذي وهي تلومها على ما فعلته ببنطالي ، ثم اعتذرت لي مهمهة (معليش يا استاذ ) قلت متمتما (خليها ما مشكله ، طفله صغيره ) ووضعتها على فخذيها ، وقد هبت نسيمات خفيفات ، والجو يبشر بخريف قادم ومناخ معتدل وبارد ، (انتوا ماشين وين )؟ (ماشين مدني ) (اهاا، والله انا راكب ساي ما عارف ماشي وين ) (انت ما عندك زول في مدني )؟ (ابدا والله ،ماشي ساي) (شيء مؤسف ، الله ياذاهم شردونا من بيوتنا ) (كلو لي خير وكل شيء مقدر ومكتوب، دي بتك ) (لا لا دي بت اخوي الله يرحمو ، وما شين لامها في مدني ) (الله يرحمه وامها اتزوجت وللا شنو )؟ (ايوه ، اتزوجها اخوي التاني ، انا شايفاك قبل كده , بس وين ما متاكده) (شبهي كتار ) (لا لا متاكده شايفاك في مكان ، انت مدرس )؟ (ايوه) (بس خلاص اتذكرتك ، انت ومعاك مدرسين جيتوا عزاء اخوي زميلكم ) (هو اخوك منو استاذ منو ) (استاذ بدرالدين ) (لا حول ولاقوة الا بالله العظيم ، انتي اخت بدر الدين ) (ايوه والله اختو طوالي) (يا سلام ياخ الله يرحمو ، صاح جينا البيت وانا قعدت تلاته ايام ، صح صح اتذكرتك انتي ساميه ) (بس ياني ساميه) مددت يدي اصافحها بحراره وقبضتها بقوة ينتابني خليط من مشاعر الحزن والفرح ، ثم انني رايت دموعها تساقطت ساخنه على كفي ، فجعلت يدي اليسري. على تقبض على كفها وقلت متاثرا (ربي يتقبله والله كان راجل ود رجال )
طال بيننا صمت طويل وهي تحاول ان تحبس دموعها ثم قالت متنحنحه (انت استاذ خالد طوالي كان بحكي لينا عنك) ثم اصابها تشنج فانحنت تبكي الى ركبتيها وقد اخذت من فخذيها الطفله التي استغرقت في النوم ، مددت يدي بارتباك وانا اربت على ظهرها هامسا : (استغفري الله ، كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) رفعت الي عينين محمرتين من اثر البكاء ثم تناولت منديلا ورقيا تمخطت به ورمته بالنافذه ،
بلغت بنا الحافله سوق مدينة مدني ، وهذه اول مرة لي ازور هذه المدينه ، وجعلت اتلفت يمنة ويسره ، ثم التفت الى ساميه اودعها فقالت : (والله ما بتمشي محل ، تعال انزل معانا ، ولو ما عجبك الحال بعداك شوف ليك ايجار )حاولت ان ارفض هذا العرض ولكنها اقسمت علي )
ونادت على تاكسي وانحنت الى السايق وقالت (مايو مربع ٤)
نزوح (٢)
كنت في حالة خجل عظمى وانا اقف خلف سامية والطفله ، واهل الدار يعانقونها في ترحاب شديد واستقبال حافل بالدموع والشوق، ثم فجأة التفتت الي سامية تعرفني باهلها : (ده اخوي سعدالدين ابو براءة الصغيره ) وتقدم الي شاب نحيف يشبه بدر الدين (رحمة الله عليه ) حياني الشاب في حرارة وهو متسائلا ولكن شقيقته سامية بادرت بالقول : (ده صاحب المرحوم بدرالدين ) وكانما نزلت على الشاب ذاكره من السماء وقال يخاطب اخته بصوت مسموع : (كيف ما بعرفو ؟ خالد نصر والله لا يمكن انساه) احسست بلباس الخجل ينتزع عني انتزاعا وتحل محله فرحه كبيرة جدا ، اذ تذكرني هذا الشاب و الذي قال : (اتفضل اتفضل يازول ، حبابك مليون والله ) وفي منتصف الدار وقفت امرأة شامخة غاية في الجمال ، حملت الطفله براءه بين راعيها وجعلت تقبلها في كل مكان من وجهها بشوق شديد ، فقال الشاب يلفتها : (دي ام براءة وارملة بدر الدين وزوجتي حاليا ، تعالي يا اميرة اعرفك على استاذ خالد ) وحيتني المراة بايماءة خفيفه من رأسها وهي تسدل رموشها السود على عينيها بحياء وتضع كفا على صدرها : (وعليكم السلام استاذ خالد ، كيف حالك ، الف حمدا لله على سلامتكم) وكانت زميلة السفر ( سامية) قريبة مني اذ همست في اذني وهي تضحك : (انصاريه) ثم انني ابتسمت ابتسامه خفيفه مجاملا وانا ارد على المراة زوجة سعد الدين : (اهلا وسهلا. ، الله يسلمك يارب، شكرا ليك)
وتبعت الشاب سعد الدين الي صالون طويل مفروش باثاث فاخر، يوحي بالراحة والهدؤ وسار سعد الدين امامي وانحنى يصلح ويرتب الفراش القريب من باب الصالون وهو يقول مرحبا بي : (البيت بيتك يا استاذ ، اخد ليك راحة ونومه وبعدين بجيك ادردش معاك وابراك بري ) ثم ضحك وخرج.
حقيقة لم اجد اسرة بمثل هذا الجمال وهذه الطيبه وهذا الحنان ، اسرة كلها مملؤه بمشاعر فياضه من الكرم لا مثيل له ، الشيء الذي جعلني اتحرج وارتبك ، فها هم هؤلاء اهل مدني الاصيلين الذين اشتهروا باكرام الضيف ،وبالحفاوة فقد كنت اسمع الكثير جدا عن ان اهل مدني هم اهل الفن والابداع ، ولكن لم اعلم انهم الى جانب ذلك يمتازون بهذه الاخلاق العاليه من التسامح والمحبه
كنت في الصباح الباكر اخرج من البيت اهيم على وجهي و اتجول في شوارع المدينه الواسعه ، اتعرف اليها و الى مبانيها واسواقها ومؤسساتها وكنت بخروجي الباكر هذا ، احاول ألا يتحرج الشاب سعد الدين بوجودي بين نسائه، فيتخلف عن عمله بسببي ، فلما كان يتفقدني و يتصل علي تلفونيا ، كنت اقول له : (معليش يا سعد الدين بس ما حبيت اصحيك وازعجك ، طلعت بدري بفتش لي في شغل ) ويرد سعد الدين : (ياخ الكلام ده ما اوانو ، لما ترتاح ليك كم يوم ، بعد داك فول داير شغل وانا عندي ناس كتار بعرفهم ممكن يقدموا ليك المساعدة ) وارد عليه : (لا والله ما عاوز ازعجك بمواضيعي ) ويقول معاتبا : (معقوله دي يا استاذ؟ ازعاج شنو؟ نحن لاقين زيك وين عشان نخدمو ، ليه انت حاسي بانك زول غريب عننا (ثم تخنقه عبره ويواصل :(انت يا استاذ خالد الزول الوحيد من بين المدرسين لازمنا في عزاء بدرالدين وكنت ترقد في الصيوان بره مع الشباب ) وانا اهمهم : ( ده الواجب والله)
وفي اليوم الرابع وانا في طريقي اجوب الطرقات والمدارس مدرسه مدرسة وطريق طريق ، عثرت على وظيفة تدريس في احدى تلك المدارس الخاصة ، ووعدني مديرها باستلام جدول الحصص الاسبوعي في يوم الاحد القادم.
وفي طريق عودتي الى البيت وقد انشرح صدري فرحا بهذا الانجاز ، اتصلت بي زميلة السفر (ساميه) : (في شنو يا استاذ خالد ، حاسي انك ما مرتاح معانا وللا شنو ، كل يوم تزوغ من تصبح لحدي تمسي) قلت محتجا : ( ابدا والله مافي شيء بس بطلع الصباح بدري عشان اشوف لي شغلانه ) قالت صاحكه : (اهاا ولقيت الشغلانه دي وللا لسع ، يا استاذ دي اعتبرها اجازة عشان ترتاح من الطبشيره ، انت ظاهر عليك جنك شغل ) بادلتها الضحك : (ايوه لقيت وظيفة تدريس في مدرسه خاصه) قالت ىبسرعه : (سمح تعال البيت سعد الدين ده منتظرك بالغداء )
بلغت البيت ، وفتحت (سامية) الباب بلهف وشوق، وقالت : (يازول من جينا مدني دي ما شفتك غير مره واحده ) ثم توردت وجنتيها، وحاولت ان تجعل من قولها مزحه : ( انتوا التدريس ده جاري في دمكم) ونظرت اليها فاذا هي متانقة بفستان ابيض بورود زرقاء صغيره ، وبدت كانها لوحه بريشة رسام يوناني عريق، لم تكن تلك سامية التي قابلتها اول الامر في الحافلة بعينيها المذعورتين ووجها الكالح الحزين ، سامية كانت تفتقد الى اهلها ووطنها الاصلي
وقبل ان ادلف الى الصالون ظهر اخوها وهو ينادي : (تعال يا زول بي جاي ، يا شراد ، ما قعدنا معاك زاتو ) ثم ضحك بصوت عال مستطردا : (الليله الغدا بهنا واميرة وساميه اتكسروا وعاملين ليك صينيه معتبره) وترددت في الدخول ولكن اصرارهم ازاح عن كاهلي كل حرج فدخلت.
د. خالد نصر مالك
نزوح (٣)
بدات سامية تلفت انتباهي باناقتها وظرافتها ، واهتمامها الشديد بي وبملابسي وبطعامي ، وبصحتي ، واظنني بدات اميل اليها واشتاق حديثها ، وضحكتها ، واشتعلت فيما بيننا شرارت الحب والهيام ، ورايت نفسي اعود من عملي بلهف تحملني رياح الشوق ، وتقودني خطى الحنين ، وفي كل مرة اعاتب نفسي وازجرها ، لعلها لا تقصد ذلك ، لعلها رات في شخصيتي شقيقها بدرالدين ، او لعل الطيبه التي بداخلها تدفعها الى اكرامي وحسن ضيافتي ، ولعلها ، ولعلها ، ولعلها. ولذلك بدات اتغيب عن البيت تدريجيا ، واعود مساء ، ولكن قلبي بدا يعاود الكرة ويتجدد نشاط لهفه ، وخاصة عندما بدات سامية تلاحقني بالتلفون وتسال عني وتلومني : (يخسي عليك ، عملتها واضحه يا خالد). واتلعثم : (ابدا. ، بس كان ... اتاخرت شويه ،، في المكتب) وفجاة تهمس : (بعني ما مشتاق لينا) كان هذا سؤالا ، مجرد سؤال لكنه وقع علي كالصاعقه , فبماذا ارد ، طال الصمت بينتا وهي على الخط تنتظر الاجابه ، وهي تعرف ما يعتلج في صدري من مشاعر تتدفق سيلا وتنهمر شلالا نحوها ، وقلت مهمهما : ( انا ؟ ايوه ، كيف ياخ ) قالت : (خلاص تعال سريع )
حذائي يعلوه الغبار ، وحلقي اصابه الجفاف ، والجوع يعمل سكاكينه في بطني ، لقد كنت اجوب شوارع مدني اتعرف شوارعها ومبانيها ومؤسساتها وحدائقها ، لكن هذه المره كنت اجوب مدني لاعرفها بنفسي : ( انا مواطن سوداني كان يعيش في امن وسلام ورغد من العيش فكفر بانعم الله فاذاقه الله لباس الجوع ، قيض الله لنا شياطين الانس ، عاثت في ارضنا الفساد ، ونهبت وسرقت وقتلت وزنت ، ولم تترك كبيره من الكبائر الا و فعةتها ، هأنذا يا مدني اتيتك لاجئا ، منكسرا ، مشردا ، حزينا ، فضميني اليك )
عدت الى البيت ونظرت ساميه لحالي ، وتاوهت في رعب : (مالك يازول ، الحاصل عليك شنو ) قلت بخحل : (مافي شيء بس الشغل كتير ) وهي تعلم اني اكذب فقالت : (خلاص امشي اخد ليك دش ، مجهز غدا تاكل اصابعك وراه) وقبل ان ادخل رايت سعد الدين شقيقها جالسا على مقعد صغير وحالما راني اخذ يغني : (الشوووق للحبيب يا ناس ) ثم ضحك بصوت عالي وواصل الغناء لزوجته : ( يا اميرااااااا تعالي شوفي البي ) واضحكنا جميعا برغم تورد وجنتي ساميه واحمرارهما .
في مدني عشت اجمل ايام حياتي ، بعيدا عن اصوات الرصاص وسقوط الدانات ، وازيز الطائرات ، وبعيدا عن رؤية الدماء المتناثره على اطراف الشوارع وصراخ الثكالى ، وجثث المرتزقه والمتمردين ، وضوضاء المدافع
لم استطع ان اخفي مبادلة حبي لساميه ، فقد بات واضحا للعيان ، اذ انني كلما ادخل الي البيت احمل هدايا للطفله براءة وهدايا لساميه .
ولكن السعادة لا تستمر طويلا ، ففي صباح احد الايام استيقظنا على اصوات المدافع والرصاص ، ماهذا؟ هل انتقلت الحرب من الخرطوم الى مدني؟ وجاءتنا الاخبار ان الجنجويد دخلو عبر كبري حنتوب واحتلوا المدينه ، بعد ان قتلوا ما قتلوا من الجيش والمستنفرين , وبعض المدنيين ، وقد دخل الخوف مجددا الى قلب ساميه والطفلة براءة ، بعد ان احسوا بالأمان في مدينة ود مدني ، فحاءني سعد الدين بعرضه قائلا : ( يا خوي الناس دي كلها اتخارجت ونحن ما اقل منهم ولا اشجع منهم عشان ننتظر العولاق ديل يهجموا علينا ، والله لولا النسوان ديل ، كان قعدنا ) قلت له : (والراي شنو )؟ قال : (نمشي كسلا ) فكرت بعمق شديد ثم أجبته : ( طيب انا اساسا من كسلا وعندي اصحاب كتار هناك ) قال بفرح : (اتوكلنا على الله)
ودعنا مدينة ود مدني ونزحنا الى مدينة كسلا الوريفه ، وقد حملنا ما خف وزنه وثقل ثمنه ، وهناك اتصلت تلفونيا على صديقي حسن وأخبرته بوصولي الى كسلا وان معي عائله صغيره ونحن في حاجه الى منزل للايجار، فاقسم بالله ان اتي بهم الى بيته ، فقد كان حسن رجلا بكل ما تحمل هذه الكلمه من معنى ، مضيافا ، كريما ، شهما ، مثله مثل الكثيرين من اهل كسلا الوريفه ،
وادهشنا حسن بكرمه وضيافته وهو يقول : (تحتاحوا بيت لشنو ، انا عندي الشق البيجاي ده فاضي ) ثم استدرك فجاة عندما احس بان تلك عائلة قائمة بذاتها ولها خصوصياتها : (خالد ده ممكن يقعد معانا هنا في الصالون )
واخذ سعد الدين يشكره بحراره ، ويقول : ( نعم الصحبة صحبة خالد)
ورايت امتعاضا في وجه ساميه ،فهي لا تحب ان تفارقني ، وتعتقد ان ابتعادي عنها سيجعلني انساها ،
وبعد وجبه دسمه قدمها لنا صديقي حسن ، ذهبنا كلنا الى الشق الذي اشار اليه ، فوجدنا بيتا جميلا مريحا ، مهيأ من كل النواحي ، ما توقعنا ان نراه بهذا الجمال وهذه السعة. حتى ان سعد الدين قال بثقه : (والله خالد زاتو. ممكن يجي معانا ) وهنا عادت الفرحه لوجه ساميه ورددت : (والله شايلنا كلنا ، ماشاء الله واسع والله ) فنظر اليها سعد الدين فابتسم في وجهها ، واحسست بالحرج ، وانا اقول : (لا ياخ اخدوا راحتكم ) فارسلت الى ساميه نظرة لوم وعتاب .
وهنا نطق حسن : (ماعندي مشكله المحل البريحو )
وخرجت وحسن لنترك الاسره ترتب اوضاعها ، وتهيء موضع نومها
همس حسن في اذني: (والله بختك ،البت دي بتريدك شديد ) قلت مرتبكا : (ههههه طيبه خلاص) فضحك حسن قايلا : (ديل تعرفهم من وبن )؟
وجلست احكي لحسن كل الحكاية بالتفاصيل الدقيقه ، وفي كل مره يعقد حاجبيه دهشه ، وهو يقول : (والله يا خالد لو ما شفت بعيني اقول ده فيلم هندي او قصه من فصصك الخياليه)
د. خالد نصر مالك
نزوح (٤)
خرجت صباحا مع صديقي حسن ، وهو في طريقه الى مكان عمله، رايت تغيير كثيرا في البنية التحتية لمدينه كسلا التي غادرتها في نهاية الثمانينات من هذ القرن، حتى السحنات جرى عليها التغيير ، لم تكن تلك التي عهدتها ،فقد احتلط الحابل بالنابل ، فلما سالت حسن عن هذا التغيير اجابني : (ديل ما ناس كسلا ، ديل نازحين من بداية الحرب ، استقروا رسمي وشعبي، وعملوا مشاريعهم هنا) ثم استطرد : (ديل استقروا هنا وما اظن تاني يرجعوا),
تركت حسن في مكان عمله ورحت اتجول في سوق كسلا الكبير, وعادت بي الذكريات حيث مكتبة دار الفكر لصاحبها الدرديري كباشي ومطعم خيرات لصاحبه السر خيرات وشارع البوسته والمستشفي الكبير ، ولفت نظري وجود القهاوي بكثرة والصيدليات، ورحت مشيا على الاقدام حتى بلغت حي الجسر ، ومن هناك رايت نهر القاش فاخذني الحنيين اليه ، فرحت اسير علي الكبري ماشيا ، تتناوشني الذكريات الحلوة ، فجاة رن تلفوني ،يقطع علي حبل الذكريات، فاذا به اتصال من ساميه :(انت وين يازول) ؟ ضحكت وانا اقول : (قاطع كبري القاش كداري) ضحكت هي الاخرى : ( بختك والله ، انا عمري ما شفتو ) ثم استطردت : (بتجي متين) ترددت ثم قلت : (برجع افطر مع حسن واجيكم بعدين) فقالت بدلال : (بستناك) ، ثم اخذتني قدماي حتى بانت ، وهناك جلست الى ست شاي وطلبت لنفسي كوب من القهوة بالزنجبيل ، وارتحت قليلا ، ثم فكرت في ان ازور ابناء عمومتي في السواقي الجنوبيه ، وقد سروا بقدومي ايما سرور ، وتحدثنا كثيرا عن الحرب ومافعله الجنجويد من قتل وتشريد ونهب واغتصاب ، وعن العملاء والخونه والمرتزقه ، وعن تجاوزات الحكومات المتعاقبه في جانب الوجود الاجنبي في السودان ، ومنح الجنسيه للكثير من الاجانب ، والفوضى العارمه التي تحتل الاسواق ، وضعف الرقابه الامنيه في شتى المجالات ، وقال ابن عمي : (الشغله دي عاوزه ضبط وربط من الاجهزه الامنيه ، والله تاني مافي زول يرفع عينو) ثم استطرد : (شفت الرشاوي دي هي الجابت خبر البلد دي ، والله لو اي زول ارتشى يمسكوهو يعدموه في الفسحات هناك ، البلد دي تاني تمشي زي الخيط)
ودعت ابناء عمي وقد اخذوا مني عهدا بالعودة اليهم
وجدت ساميه تنتظرني وهي في ابهى صورتها ، جميلة المحيا ، انيقة المظهر ، تضع بسمة جميله على شفتيها وفي عينيها اشواق ولهف ، وقبل ان ابلغها بخطوات ، سبقتها الطفله براءه الى احضاني، وهي تصرخ فرحة : (عمو خالد جاء عمو خالد جاء ) فقالت ساميه ضاحكة : ( غايتو جنس غيره ) فاخذت الطفله الى صدري اقبل خديها وهي تلف ذراعيها الصغيرتين حول عنقي ، ثم مددت يدي الي ساميه : (كيف حالك) قالت : (بخير ، اها كسلا كيف )؟ قلت : ( كسلا اتغيرت ماياها كسلا البعرفها زمان) قالت وهي نعقد ما بين حاجبيها : ( يعني انت عشت فيها قبل كده ) قلت باسما : ( ميلادي ونشاتي وحياتي كلها كانت في كسلا) قالت : (يعني انت اساسا من هنا طيب الوداك الخرطوم شنو )؟ قلت : (زمان مافي جامعات في كسلا ، شالونا جامعة الخرطوم ، وابوي ناظر في السكة حديد ، نقلوه محطة الباقير ، باع البيت هنا ) وطال الصمت بيننا ثم قالت : ( ابوي الله يرحمو من الشماليه ، اشتغل في البوليس وجا استقر في مدني واتزوج امي في مدني ، وقبل ما يموت اشترى لينا قطعة ارض في الازهري ، بنيناها انا وبدرالدين وسعد الدين ، وامي اتوفت هناك في الازهري قبل وفاة بدرالدين) وقلت متمتما : (الله يرحمهم جميعا) وبدات ساميه تحكي عن عملها في ادارة العلاقات العامة بمطار الخرطوم ، ولقاء السفراء وما تجنيه من ارباح ضخمة جراء صفقات كثيره وكبيره ، وقد ذكرت في معرض حديثها عن الخطاب الذين تقدموا للزواج بها ، واعتذارها لهم، وضحكت قائلا : (السبب شنو )؟قالت تضحك : (بري والله ماعارفه، احتمال ما عجبوني) وضحكت حتى اغرورقت عيناي بالدموع وقلت : (انتي مجنونه ، فرص زي دي كيف تضيعيها من ايدك) وهنا تدخل سعد الدين ضاحكا : ( ربنا شتتهم كلهم عشان تجيها انت ) وارتبكت قليلا ، وقلت : (ا ايوه كل شيء قسمه ونصيب) فاحمرت وجنتا ساميه وهي تتمتم : (ايوه ايوه قسمه ونصيب)
ثم واتتني شجاعة منقطعة النظير فتوجهت الى سعد الدين بقولي : (لو اختك وافقت بي انا عاوزها) فوجمت ساميه في مكانها كمن لدغته عقرب ، فقال سعد الدين في سخريه وهو يصحك : (توافق بيك ؟ دي ح تطير من الفرح ، انت ما شايف الاهتمامات دي )؟ ثم استطرد موجها سؤاله لها : ( موافقه بيهو )؟ فاحنت راسها وهمست همسا خفيفا : (ايوه موافقه بيهو)
وضحك سعد الدين وهو بنادي زوجته : (اميره يا اميره جهزي الشربات)
وتم بحمدالله تعالى زواجي من ساميه وسط شهود من اصحابي واهلي بمدينة كسلا
د. خالد نصر مالك
تعليقات
إرسال تعليق